فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

{إِنَّ يوم الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17)}
{يوم الفصل} هو يوم القيامة، لأن الله تعالى يفصل فيه بين المؤمنين والكافرين، وبين الحق والباطل، و(الميقات) مفعال من الوقت، كميعاد من الوعد، وقوله: {يوم ينفخ} بدل من اليوم الأول، و{الصور}: القرن الذي ينفخ فيه لبعث الناس. هذا قول الجمهور، ويحتمل هذا الموضع أن يكون {الصور} فيه جمع صورة أي يوم يرد الله فيه الأرواح إلى الأبدان، هذا قول بعضهم في {الصور} وجوزه أبو حاتم، والأول أشهر وبه تظاهرت الاثار، وهو ظاهر كتاب الله تعالى في قوله: {ثم نفخ فيه أخرى} [الزمر: 68] وقرأ أبو عياض {في الصوَر} بفتح الواو، و(الأفواج) الجماعات يتلو بعضها بعضاً، واحدها فوج، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر وشيبة والحسن: {وفتّحت}، بشد التاء على المبالغة، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: {وفتَحت} دون شد، وقوله تعالى: {فكانت أبواباً} قيل معناه: تتفطر وتتشقق حتى يكون فيها فتوح كالأبواب في الجدارات، وقال آخرون فيما حكى مكي بن أبي طالب: الأبواب هنا فلق الخشب التي تجعل أبواباً لفتوح الجدارات أي تتقطع السماء قطعاً صغاراً حتى تكون كألواح الأبواب. والقول الأول أحسن، وقال بعض أهل العلم: تتفتح في السماء أبواب الملائكة من حيث يصعدون وينزلون. وقوله تعالى: {فكانت سراباً} عبارة عن تلاشيها وفنائها بعد كونها هباء منثباً، ولم يرد أن الجبال تعود تشبه الماء على بعد من الناظر إليها، و{مرصاداً}: موضع الرصد، ومنه قوله تعالى: {إن ربك لبالمرصاد} [الفجر: 14]، وقد روي عن الحسن بن أبي الحسن أنه قال: لا يدخل أحد الجنة حتى يجوز على جهنم، فمن كانت عنده أسباب نجاة نجا وإلا هلك.
وقال قتادة: تعلمن أنه لا سبيل إلى الجنة حتى تقطع النار، وفي الحديث الصحيح: «إن الصراط جسر ينصب على متن جهنم ثم يجوز عليه الناس فناج ومكردس»، وقال بعض المتأولين: {مرصاداً}
مفعال بمعنى راصد، وقرأ أبو معمر المنقري: {أن جهنم} بفتح الألف والجمهور: على كسرها، و(الطاغون): الكافرون، و(المآب) المرجع، و(الأحقاب): جمع حقب بفتح القاف، وحِقب: بكسر الحاء، وحقُب: بضم القاف، وهو جمع حقبة ومنه قول متمم: الطويل:
وكنا كندماني جذيمة حقبة ** من الدهر حتى قيل لن تصدعا

وهي المدة الطويلة من الدهر غير محدودة، ويقال للسنة أيضاً حقبة، وقال بشر بن كعب: حدها على ما ورد في الكتب المنزلة ثلاثمائة سنة، وقال هلال الهجري: ثمانون سنة قالا في كل سنة ثلاثمائة وستون يوماً، كل يوم من ألف سنة، وقال ابن عباس وابن عمر: الحقب ستون ألف سنة، وقال الحسن: ثلاثون ألف سنة وكثر الناس في هذا اللازم أن الله تعالى أخبر عن الكفار أنهم يلبثون {أحقاباً} كلما مر حقب جاء غيره إلى ما لا نهاية، قال الحسن: ليس لها عدة إلا الخلود في النار، ومن الناس من ظن لذكر الأحقاب أن مدة العذاب تنحصر وتتم فطلبوا التأويل لذلك، فقال مقاتل بن حيان: الحقب سبعة عشر ألف سنة، وهي منسوخة بقوله تعالى: {فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً} [النبأ: 30]، وقد ذكرنا فساد هذا القول، وقال آخرون الموصوفون باللبث {أحقاباً} عصاة المؤمنين، وهذا أيضاً ضعيف ما بعده في السورة يدل عليه، وقال آخرون: إنما المعنى: {لابثين فيها أحقاباً} غير ذائقين برداً ولا شراباً، فهذه الحال يلبثون أحقاباً ثم يبقى العذاب سرمداً وهم يشربون أشربة جهنم، وقرأ الجمهور: {لابثين} وقرأ حمزة وحده وابن مسعود وعلقمة وابن وثاب وعمرو بن ميمون وعمرو بن شرحبيل وابن جبير {لبثن} جمع لبث، وهي قراءة معترضة لأن فعلاً إنما يكون فيما صار خلقاً كحذر وفرق، وقد جاء شاذاً فيما ليس بخلق وأنشد الطبري وغيره في ذلك بيت لبيد: الكامل:
أو مسحل عمل عضادة سمحج ** بسراته ندب له وكلوم

قال المعترض في القراءة: لا حجة في هذا البيت لأن عملاً قد صار كالخلق الذي واظب على العمل به حتى أنه ليسمى به في وقت لا يعمل فيه كما تقول كاتب لمن كانت له صناعة وإن لم يكتب أكثر أحيانه، قال المحتج لها: شبه لبث بدوامه بالخلق لما صار اللبث من شأنه.
{لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24)} قال أبو عبيدة والكسائي والفضل بن خالد ومعاذ النحوي: (البرد) في هذه الآية: النوم، والعرب تسمه بذلك لأنه يبرد سؤر العطش، ومن كلامهم منع البرد البرد، وقال جمهور الناس: (البرد) في الآية: مسر الهواء البارد وهو القر، أي لا يمسهم منه ما يستلذ ويكسر غرب الحر، فالذوق على هذين القولين مستعار، وقال ابن عباس: (البرد): الشراب المستلذ، ومنه قول حسان بن ثابت: الكامل:
يسقون من ورد البريص عليهمُ ** بردى يصفق بالرحيق السلسل

ومنه قول الآخر: الطويل:
أماني من سعدى حسان كأنما ** سقتني بها سعدى على ظمأ بردا

ثم قال تعالى: {ولا شراباً إلا حميماً} فالاستثناء متصل و(الحميم): الحار الذائب وأكثر استعماله في الماء السخن والعرق ومنه الحمام، وقال ابن زيد: (الحميم): دموع أعينهم، وقال النقاش: ويقال (الحميم) الصفر المذاب المتناهي الحر، واختلف الناس في (الغساق)، فقال قتادة والنخعي وجماعة: هو ما يسيل من أجسام أهل النار من صديد ونحوه، يقال: غسق الجرح: إذا سال منه قيح ودم، وغسقت العين: إذا دمعت وإذا خرج قذاها، وقال ابن عباس ومجاهد: (الغساق): مشروب لهم مفرط الزمهرير، كأنه في الطرف الثاني من الحميم يشوي الوجوه ببرده، وقال عبد الله بن بريدة: (الغساق): المنتن، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر وعاصم وجماعة من الجمهور: {غسَاقاً}، بتخفيف السين وهو اسم على ما قدمناه، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وابن أبي إسحاق السبيعي والحكم بن عتبة وقتادة وابن وثاب: {غسّاقاً} مشددة السين وهي صفة أقيمت مقام الموصوف، كأنه قال ومشروب غساق أي سائل من أبدانهم، وقوله تعالى: {وفاقاً} معناه لأعمالهم وكفرهم أي هو جزاؤهم الجدير بهم الموافق مع التحذير لأعمالهم فهي كفر، و(الجزاء): نار، و{يرجون} قال أبو عبيدة وغيره: معناه: يخافون، وقال غيره: الرجاء هنا على بابه، ولا رجاء إلا وهو مقترن بخوف ولا خوف إلا وهو مقترن برجاء، فذكر أحد القسمين لأن المقصد العبارة عن تكذيبهم كأنه قال: إنهم كانوا لا يصدقون بالحساب، فلذلك لا يرجونه ولا يخافونه، وقرأ جمهور الناس: {كِذّاباً} بشد الذال وكسر الكاف وهو مصدر بلغة بعض العرب، وهي يمانية ومنه قول أحدهم وهو يستفتي: ألحلق أحب إليك أم القصار؟
ومنه قول الشاعر: الطويل:
لقد طال ما ثبطتني عن صحابتي ** وعن حاجة قضاؤها من شفائيا

وهذا عندهم مصدر من فعّل، وقال الطبري: لم يختلف القراء في هذا الموضع في {كذاباً}.
قال القاضي أبو محمد: وأراه أراد السبعة، وأما في الشاذ، فقرأ على بن أبي طالب وعوف الأعرابي وعيسى والأعمش وأبو رجاء: {كِذَاباً} بكسر الكاف وبتخفيف الذال، وقرأ عبد الله بن عمر بن عبد العزيز: {كُذّاباً} بضم الكاف وشد الذال على أنه جمع كاذب ونصبه على الحال قاله أبو حاتم، وقوله تعالى: {وكل شيء أحصيناه}، يريد كل شيء شأنه أن يحضر في هذا الخبر وربط لآخر القصة بأولها أي هم مكذبون وكافرون، ونحن قد أحصينا، فالقول لهم في الآخرة {ذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً} رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {إِنَّ يوم الفصل كَانَ مِيقَاتاً} أي وقتاً ومجمعاً وميعاداً للأوّلين والآخرين؛ لما وعد الله من الجزاء والثواب.
وسمي يوم الفصل لأن الله تعالى يفصل فيه بين خلقه.
قوله تعالى: {يوم يُنفَخُ فِي الصور} أي للبعث {فَتَأْتُونَ} أي إلى موضع العَرْض، {أَفْوَاجاً} أي أمما، كل أمّة مع إمامهم.
وقيل: زمراً وجماعات.
الواحد: فوج.
ونصب يوماً بدلاً من اليوم الأوّل.
وروي من حديث معاذ بن جبل قلت: يا رسول الله! أرأيت قوله تعالى: {يوم يُنفَخُ فِي الصور فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا معاذ بنَ جَبَل لقد سألت عن أمر عظيم» ثم أرسل عينيه باكياً، ثم قال: «يُحشَر عشرة أصناف من أمتي أشتاتاً قد ميزهم الله تعالى من جماعات المسلمين، وبدل صُوَرهم، فمنهم على صورة القِرَدة وبعضهم على صورة الخنازير وبعضهم مُنكَّسون: أرجلهم أعلاهم، ووجوهُهم يُسْحَبون عليها، وبعضهم عُمْي يتردّدون، وبعضهم صُمٌّ بُكْمٌ لا يعقلون، وبعضهم يَمضُغون ألسنتهم، فهي مُدلاَّة على صدورهم، يسيل القَيح من أفواههم لعاباً، يتقذرهم أهل الجمع، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم، وبعضهم مصلبون على جذوع من النار، وبعضهم أشدّ نَتْناً من الجِيف، وبعضهم ملبسون جلابيب سابغة من القَطران لاصقة بجلودهم؛ فأما الذين على صورة القردة فالقَتَّات من الناس يعني النمام وأَما الذين على صورة الخنازير، فأهل السُّحْت والحرام والمَكْس.
وأما المنكَّسون رؤوسهم ووجوههم، فأَكَلة الربا، والعُمْي: من يجور في الحكم، والصم البكم: الذين يعجبون بأعمالهم.
والذين يمضغون ألسنتهم: فالعلماء والقُصّاص الذين يخالف قولهم فعلهم.
والمقطعة أيديهم وأرجلهم: فالذين يؤذون الجيران.
والمصلَّبون على جذوع النار: فالسعاة بالناس إلى السلطان والذين هم أشد نَتْناً من الجِيف فالذين يتمتعون بالشهوات واللذات، ويمنعون حق الله من أموالهم.
والذين يلْبَسون الجلابيب: فأهل الكِبْر والفخر والخَيَلاء»
.
قوله تعالى: {وَفُتِحَتِ السماء فَكَانَتْ أَبْوَاباً} أي لنزول الملائكة؛ كما قال تعالى: {وَيوم تَشَقَّقُ السماء بالغمام وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً}.
وقيل: تقطعت، فكانت قِطعاً كالأبواب فانتصاب الأبواب على هذا التأويل بحذف الكاف.
وقيل: التقدير فكانت ذات أبواب؛ لأنها تصير كلها أبواباً.
وقيل: أبوابها طُرُقها.
وقيل: تنحلّ وتتناثر، حتى تصير فيها أبواب.
وقيل: إن لكل عبد بابين في السماء: باباً لعمله، وباباً لرزقه، فإذا قامت القيامة انفتحت الأبواب.
وفي حديث الإسراء: «ثُمّ عرج بنا إلى السماء فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وَقَد بُعِث إليه؟ قال: قد بُعِث إليه. ففُتح لنا».
{وَسُيِّرَتِ الجبال فَكَانَتْ سَرَاباً} أي لا شيء كما أنَّ السراب كذلك: يظنه الرائي ماء وليس بماء.
وقيل: {سُيِّرت} نسِفت من أصولها.
وقيل: أُزيلت عن مواضعها.
قوله تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً}:
مِفعال من الرَّصَد والرصَد: كل شيء كان أمامك.
قال الحسن: إن على النار رَصَداً، لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز عليه، فمن جاء بجواز جاز، ومن لم يجيء بجواز حُبِس.
وعن سُفيان رضي الله عنه قال: عليها ثلاث قَناطر.
وقيل {مِرصاداً} ذات أَرْصاد على النسب، أي ترصد من يمرّ بها.
وقال مقاتل: مَحْبِساً.
وقيل: طريقاً وممرّاً، فلا سبيل إلى الجنة حتى يَقْطع جهنم.
وفي الصّحاح: والمِرصاد: الطريق.
وذكر القُشَيريّ: أن المرصاد المكان الذي يَرصُد فيه الواحد العدوّ، نحو المِضمار: الموضع الذي تُضَمَّر فيه الخيل.
أي هي معدّة لهم؛ فالمِرصاد بمعنى المحلّ؛ فالملائكة يرصدون الكفار حتى ينزلوا بجهنم.
وذكر الماورديّ عن أبي سِنان أنها بمعنى راصدة، تجازيهم بأفعالهم.
وفي الصحاح: الراصد الشيءِ: الراقبُ له؛ تقول: رصدَه يرصدُه رَصْداً ورَصَداً، والترصُّد: الترقب.
والمَرْصَد: موضع الرصْد.
الأصمعيّ: رَصَدْته أرصُده: ترقبته، وأرْصدته: أعددت له.
والكسائي: مثله.
قلت: فجهنم مُعَدّة مترصّدة، مُتفعِّل من الرصْد وهو الترقب؛ أي هي متطلعة لمِن يأتي.
والمِرصاد مِفعال من أبنية المبالغة كالمِعطار والمِغيار، فكأنه يكثر من جهنم انتظار الكفار.
{لِّلطَّاغِينَ مَآباً} بدل من قوله: {مِرصادا} والمآب: المرجع، أي مرجعاً يرجعون إليها؛ يقال: آب يَئُوب أوبة: إذا رجع.
وقال قتادة: مأوًى ومنزلاً.
والمراد بالطاغين من طغى في دينه بالكفر، أو في دنياه بالظلم.
قوله تعالى: {لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً} أي ماكثين في النار ما دامت الأحقاب، وهي لا تنقطع، فكلما مضى حُقُب جاء حُقُب.
والحُقُب بضمتين: الدهر والأحقاب الدهور.
والحِقْبة بالكسر: السَّنة؛ والجمع حِقَب؛ قال متمم بن نُويرة التميمي:
وكنا كنَدْمانَيْ جَذيمة حِقبةً ** مِن الدَّهرِ حتى قيل لنْ يتصدّعَا

فلما تفرّقنا كأَنِّي ومالِكاً ** لِطولِ اجتماع لم نبِتْ ليلة معَاً

والحُقُب بالضم والسكون: ثمانون سنة.
وقيل: أكثر من ذلك وأقل، على ما يأتي، والجمع: أحقاب.
والمعنى في الآية؛ لابثين فيها أحقاب الآخرة التي لا نهاية لها؛ فحذف الآخرة لدلالة الكلام عليه؛ إذ في الكلام ذكر الآخرة وهو كما يقال أيام الآخرة؛ أي أيام بعد أيام إلى غير نهاية، وإنما كان يدل على التوقيت لو قال خمسة أحقاب أو عشرة أحقاب.
ونحوه وذكر الأحقاب لأن الحُقُب كان أبعد شيء عندهم، فتكلم بما تذهب إليه أوهامُهم ويعرفونها، وهي كناية عن التأبيد، أي يمكثون فيها أبداً.
وقيل: ذكر الأحقاب دون الأيام؛ لأن الأحقاب أهول في القلوب، وأدل على الخلود.
والمعنى متقارب؛ وهذا الخلود في حق المشركين.
ويمكن حمل الآية على العُصاة الذين يخرجون من النار بعد أحقاب.
وقيل: الأحقاب وقت لشربهم الحميم والغَسَّاق، فءذا انقضت فيكون لهم نوع آخر من العقاب؛ ولهذا قال: {لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً}.
و{لابِثِين} اسم فاعل من لبِث، ويقويه أن المصدر منه اللَّبْث بالإسكان، كالشُّرْب.
وقرأ حمزة والكسائي {لبِثِين} بغير ألف وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد، وهما لغتان؛ يقال: رجل لابِث ولبِث، مثل طمِع وطامِع، وفرِه وفارِه.
ويقال: هو لَبِث بمكان كذا: أي قد صار اللَّبث شأنه، فشبه بما هو خلقة في الإنسان نحو حَذِر وفَرِق؛ لأن باب فَعِل إنما هو لما يكون خِلْقة في الشيء في الأغلب، وليس كذلك اسم الفاعل من لابث.
والحُقُبُ: ثمانون سنة في قول ابن عمر وابن مُحَيصن وأبي هريرة، والسنة ثلثمائة يوم وستون يوماً، واليوم ألف سنة من أيام الدنيا؛ قاله ابن عباس.
وروى ابن عمر هذا مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو هريرة: والسنة ثلثمائة يوم وستون يوماً كل يوم مثل أيام الدنيا.
وعن ابن عمر أيضاً: الحُقُب: أربعون سنة.
السُّدِّيّ: سبعون سنة.
وقيل: إنه ألف شهر.
رواه أبو أمامة مرفوعاً.
بشير بن كعب: ثلثمائة سنة.
الحسن: الأحقاب لا يَدرِي أحدكم هي، ولكن ذكروا أنها مائة حُقُب، والحُقُب الواحد منها سبعون ألف سنة، اليوم منها كألف سنة مما تعدون.
وعن أبي أمامة أيضاً، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الحُقُب الواحد ثلاثون ألفَ سنة» ذكره المهدويّ.
والأوّل الماورديّ.
وقال قُطرب: هو الدهر الطويل غير المحدود.
وقال عمر رضي الله عنه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «والله لا يخرُج من النار من دخلها حتى يكون فيها أحقاباً، الحُقُب بضع وثمانون سنة، والسنة ثلثمائة وستون يوماً، كلّ يوم ألفُ سنة مما تَعُدُّون؛ فلا يتكلنَّ أحدكم على أنه يخرج من النار» ذكره الثعلَبيّ.
القُرظيّ: الأحقاب: ثلاثة وأربعون، حُقُباً كل حُقُب سبعون خَريفاً، كل خريف سبعمائةِ سنة، كل سنة ثلثمائة وستون يوماً، كل يوم ألف سنة.
قلت: هذه أقوال متعارضة، والتحديد في الآية للخلود، يحتاج إلى توقيف يقطَع العُذْر، وليس ذلك بثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وإنما المعنى والله أعلم ما ذكرناه أوّلاً؛ أي لابثين فيها أزماناً ودهوراً، كلما مضى زمن يعقبه زمن، ودهر يعقبه دهر، هكذا أبد الآبدين من غير انقطاع.
وقال ابن كَيْسان: معنى {لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً} لا غاية لها انتهاء، فكأنه قال أبداً.
وقال ابن زيد ومُقاتل: إنها منسوخة بقوله تعالى: {فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً} يعني أن العدد قد انقطع، والخلود قد حصل.
قلت: وهذا بعيد؛ لأنه خبر، وقد قال تعالى: {وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط} [الأعراف: 40] على ما تقدم.
هذا في حق الكفار، فأما العُصاة الموحدون فصحيح ويكون النسخ بمعنى التخصيص.
والله أعلم.
وقيل: المعنى {لابِثِين فِيها أحقابا} أي في الأرض، إذ قد تقدم ذكرها ويكون الضمير في {لا يذوقون فِيها بردا ولا شراباً} لجهنم.
وقيل: واحد الأحقاب حُقُب وحِقْبَةً؛ قال:
فإنْ تَنْأَ عنها حِقْبَةً لا تُلاقِهَا ** فَأنتَ بِما أَحْدَثْتَهُ بِالمُجَرَّبِ

وقال الكميت:
مَرّ لها بعد حِقبةٍ حِقَبُ

قوله تعالى: {لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا} أي في الأحقاب {بَرْداً وَلاَ شَرَاباً} البرد: النوم في قول أبي عبيدة وغيره؛ قال الشاعر:
ولو شِئتُ حَرَّمتُ النساءَ سِواكُمُ ** وإِن شِئت لم أَطْعَمُ نُقاخاً ولا بَرْدَا

وقاله مجاهد والسُّدّيّ والكسائيّ والفضل بن خالد وأبو معاذ النحوي؛ وأنشدوا قول الكنديّ:
بَرَدت مَراشفُها على فصدنِي ** عنها وعن تقبِيلِها الْبَرْد

يعني النوم.
والعرب تقول: مَنع البَرْدُ البَرْد، يعني: أذهب البرد النوم.
قلت: وقد جاء الحديث: أنه عليه الصلاة والسلام سُئل هل في الجنة نوم؟ فقال: «لا؛ النوم أخو الموت، والجنة لا موت فيها» فكذلك النار؛ وقد قال تعالى: {لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ} [فاطر: 36] وقال ابن عباس: البَرْدُ: برد الشراب.
وعنه أيضاً: البرد النوم: والشراب الماء.
وقال الزّجاج: أي لا يذوقون فيها برد ريح، ولا ظِل، ولا نومٍ.
فجعل البرد برد كل شيء له راحة، وهذا برد ينفعهم، فأما الزمهرير فهو برد يتأذون به، فلا ينفعهم، فلهم منه من العذاب ما الله أعلم به.
وقال الحسن وعطاء وابن زيد: بَرْداً: أي رَوْحاً وراحة؛ قاله الشاعر:
فلا الظلَّ مِن بردِ الضحى تستطيعُه ** ولا الفَيْءَ أوقات العَشِيّ تذوقُ

{لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً} جملة في موضع الحال من الطاغين، أو نعت للأحقاب؛ فالأحقاب ظرف زمان، والعامل فيه {لابِثِين} أو {لبِثِين} على تعدية فِعل.
{إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً} استثناء منقطع في قول من جعل البرد النوم، ومن جعله من البرودة كان بدلاً منه.
والحميم: الماء الحار؛ قاله أبو عبيدة.
وقال ابن زيد: الحميم: دموع أعينهم، تجمع في حياض ثم يُسْقَونه.
قال النحاس: أصل الحميم: الماء الحار، ومنه اشتق الحَمّام، ومنه الحُمَّي، ومنه {وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ} [الواقعة: 42] إنما يراد به النهاية في الحر.
والغَسّاق: صديد أهل النار وقَيْحُهم.
وقيل الزَّمْهَرير.
وقرأ حمزة والكسائي بتشديد السين، وقد مضى في (ص) القول فيه.
{جَزَاءً وِفَاقاً} أي موافقاً لأعمالهم.
عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما؛ فالوِفاق بمعنى الموافقة كالقِتال بمعنى المقاتلة.
و{جزاء} نصب على المصدر، أي جازيناهم جزاء وافق أعمالهم؛ قاله الفَرّاء والأخفش.
وقال الفراء أيضاً: هو جمع الوِفق، والوفق واللفق واحد.
وقال مقاتل: وافق العذاب الذنب، فلا ذنب أعظم من الشرك، ولا عذاب أعظم من النار.
وقال الحسن وعكرمة: كانت أعمالهم سيئة، فأتاهم الله بما يسوءهم.
{إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ} أي لا يخافون {حِسَاباً} أي محاسبة على أعمالهم.
وقيل: معناه لا يرجون ثواب حساب.
الزجاج: أي إنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث فيرجون حسابهم.
{وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً} أي بما جاءت به الأنبياء.
وقيل: بما أنزلنا من الكتب.
وقراءة العامة {كِذّاباً} بتشديد الذال، وكسر الكاف، على كَذَّب، أي كَذَّبوا تكذيباً كبيراً.
قال الفراء: هي لغة يمَانِيَة فصيحة؛ يقولون: كَذَّبت به كِذَّاباً، وخرقت القميص خِرَّاقاً؛ وكل فِعل في وزن (فَعَّلَ) فمصدره فِعَّال مشدد في لغتهم؛ وأنشد بعض الكلابيين:
لقد طالَ ما ثَبَّطْتني عن صاحبتي ** وعن حِوجٍ قِضَّاؤُها مِن شِفائِتا

وقرأ على رضي الله عنه {كِذَاباً} بالتخفيف وهو مصدر أيضاً.
وقال أبو على: التخفيف والتشديد جميعاً: مصدر المكاذبة، كقول الأعشى:
فصدقتها وكَذَبتُها ** والمرءُ ينفعهُ كِذَابه

أبو الفتح: جاءا جميعاً مصدر كَذَبَ وكَذَّب جميعاً.
الزمخشري: {كِذَاباً} بالتخفيف مصدر كَذَب؛ بدليل قوله:
فصدقتُها وكَذَبْتُها ** والمرءُ ينفعهُ كِذَابهْ

وهو مثل قوله: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] يعني وكذبوا بآياتنا أَفكَذَبوا كِذَاباً.
أو تنصبه بـ: {كَذَّبوا}، لأنه يتضمن معنى كَذَبوا؛ لأن كل مُكَذِّب بالحقّ كاذِب؛ لأنهم إذا كانوا عند المسلمين كاذبين، وكان المسلمون عندهم كاذبين، فبينهم مُكاذبة.
وقرأ ابن عمر {كُذَّاباً} بضم الكاف والتشديد، جمع كاذب؛ قاله أبو حاتم.
ونصبه على الحال الزمخشريّ.
وقد يكون الكُذَّاب: بمعنى الواحد البليغ في الكَذِب، يقال: رجل كُذّاب، كقولك حُسَان وبُخَّال، فيجعله صفة لمصدر (كَذَّبوا) أي تكذيباً كُذَّاباً مفرطاً كذبهُ.
وفي الصحاح: وقوله تعالى: {وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً} وهو أحد مصادر المشدّد؛ لأن مصدره قد يجيء على (تفعيل) مثل التكليم وعلى (فِعَّال) كِذَّابٍ وعلى (تفعِلة) مثل توصِية، وعلى (مُفَعَّلٍ)؛ {ومَزَّقْناهم كلَّ مُمَزَّقٍ}.
{وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً} {كلَّ} نصب بإضمار فعل يدل عليه {أحصيناه} أي وأحصينا كل شيء أحصيناه.
وقرأ أبو السَّمَّال {وكلُّ شيءٍ} بالرفع على الابتداء.
{كِتاباً} نصب على المصدر؛ لأن معنى أحصينا: كتبنا، أي كتبناه كتاباً.
ثم قيل: أراد به العلم، فإن ما كُتِب كان أبعد من النسيان.
وقيل: أي كتبناه في اللوح المحفوظ لتعرفه الملائكة.
وقيل: أراد ما كُتب على العباد من أعمالهم.
فهذه كتابة صدرت عن الملائكة الموكَّلين بالعباد بأمر الله تعالى إياهم بالكتابة؛ دليله قوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ} [الانفطار: 10-11].
{فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً} قال أبو بَرْزة: «سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن أشد آية في القرآن؟ فقال: قوله تعالى: {فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً}» أي {كلما نضِجَتْ جُلودُهْمَ بَدَّلناهم جلوداً غيرَها} [النساء: 56] و{كلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً} [الإسراء: 97]. اهـ.